حجية السنة النبوية وأثرها في بناء التشريع الإسلامي | الرد على منكري السنة
حجية السنة وأهميتها في الإسلام
تتناول هذه المقالة بيان مكانة السنة النبوية باعتبارها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وكيف تشكل مع القرآن منظومة متكاملة توجه حياة المسلم. كما تسعى لتوضيح الأسس العلمية التي تقوم عليها حجية السنة بعيدًا عن الطرح السطحي.
وتعرض المقالة كذلك أبرز الشبهات المثارة حول السنة، وتبين منهج العلماء في الرد عليها، مع إظهار دور السنة في تشكيل الواقع الإسلامي منذ عهد النبوة وحتى اليوم.
مفهوم حجية السنة وأساسها الشرعي
تعد السنة النبوية الركن التشريعي الثاني بعد القرآن الكريم، ويقصد بـ السُّنة كل ما ورد عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير.
وقد انعقد إجماع الأمة منذ القرن الأول الهجري على أن السنة وحيٌ من الله، وإن كان وحيًا غير متلو، لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
هذه الآية أرست قاعدة كلية في فهم علاقة النبي بالوحي، إذ بيّنت أن توجيهاته ليست اجتهادًا بشريًا مجردًا، بل هي هداية إلهية تتنزل بالبيان والتفصيل.
وقد رسخ النبي ﷺ هذا المبدأ بقوله: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»، مما يدل على أن للسنة سلطة تشريعية قائمة بذاتها، وأنها جزء لا يتجزأ من البناء الديني.
ولهذا أجمع علماء الأصول على حجية السنة سواء كانت مؤكِدة لما في القرآن، أو شارحة له، أو مستقلة بحكم لم يذكر في النص القرآني.
أنواع السنة ودورها في التشريع
تتنوع السنة إلى ثلاثة أقسام أساسية، لكل منها دور بالغ في تأسيس المعنى الشرعي.
فهناك السنة القولية: التي تمثل التصريحات المباشرة للنبي ﷺ، وهي تشكل أكبر جزء من الأحكام التفصيلية.
ثم السنة الفعلية: التي تكشف تطبيقات عملية للمنهج القرآني، مثل كيفية الصلاة ومناسك الحج.
وأخيرًا السنة التقريرية: حيث يقرّ النبي ﷺ فعلًا أو قولًا صدر من الصحابة دون إنكار، فيصبح ذلك الفعل دليلًا على الجواز.
وتتميز السنة بأنها تقدم الجانب العملي من الدين، وهو ما لا يُستغنى عنه في فهم الشريعة؛ فالقرآن جاء بالأصول العامة، بينما تولت السنة التفصيل والتطبيق؛ فعلى سبيل المثال: فرض القرآن الصلاة، لكن تفاصيلها العملية جاءت كاملة في السنة، مما يُبرز طبيعة التكامل بين المصدرين.
السنة النبوية وتفسير القرآن الكريم
العَلاقة بين القرآن والسنة علاقة تفسير وإيضاح، فالنبي ﷺ هو المفسر الأول لكتاب الله. وقد اعتبر العلماء أن فَهم النص القرآني دون الرجوع إلى السنة يؤدي إلى نقص كبير في استيعاب مقاصد الوحي.
فعلى سبيل المثال، جاء في القرآن الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لكنها دون السُّنة ستظل أوامر عامة مبهمة، ولو لم ترد السنة في هذا المجال، لما استطاع المسلمون معرفة أنصبة الزكاة، ولا عدد ركعات الصلاة، ولا صيغ الأذكار.
من هنا تتجلى قيمة الحديث النبوي في توجيه الفَهم القرآني؛ إذ يقدم الخلفية العملية التي تحوّل النصوص النظرية إلى واقع تطبيقي، ولذلك قال الإمام الشافعي: «لا غنى لأحد عن سنة رسول الله ﷺ».
وهذا المعنى تجده حاضرًا في حياة المسلمين اليومية، حيث تُمثل السنة الجسر الذي يعبر به القارئ من حرف النص إلى روح التشريع.
السنة في مواجهة الشبهات الفكرية المعاصرة
مع تطور النقاشات الفكرية في العصر الحديث، ظهرت اتجاهات تشكك في حجية السنة بحجة عدم يقين النقل أو تعارضها مع العقل، إلا أن هذه الشبهات سرعان ما تهاوت أمام المنهج النقدي الصارم الذي وضعه علماء الحديث منذ القرون الأولى.
فالعلماء أسسوا عِلمًا دقيقًا للتحقق من الروايات، يعتمد على دراسة الإسناد والمتن، وعلى معايير متقدمة في تقييم صدق الراوي وضبطه.
فعلم الجرح والتعديل، ومعايير اتصال السند، ودراسة العلل الخفية، جعلت من التراث السُّني أحد أدق السجلات التاريخية المنقولة عبر البشر، وقد أثنى المستشرقون أنفسهم على منهجية المحدثين ودقتها.
وبالتالي؛ فإن إنكار السنة ليس موقفًا عِلميًا بقدر ما هو موقف أيديولوجي يعجز عن التعامل مع الأدلة.
أمثلة واقعية تكشف أثر السنة في الواقع المعاصر
يَظهر أثر السُّنة النبوية بوضوح في تفاصيل الحياة اليومية للمسلمين، وفي مواقف عملية لها أثر مباشر في الواقع؛ فعلى سبيل المثال، اعتمد كثير من الأطباء المسلمين في مجال الوقاية الصحية على توجيهات نبوية تتعلق بالنظافة، الحجر الصحي، وعدم مخالطة المصابين بالأمراض الوبائية.
وقد ظهر هذا بجلاء خلال جائحة عالمية حديثة، حين استشهد العديد من المتخصصين بحديث «لا يوردنّ ممرض على مصح»، معتبرين أنه قاعدة وقائية متقدمة تسبق نظريات الطب الحديث.
كما نجد في بيئة العمل، أن الالتزام بتعاليم النبي ﷺ المتعلقة بالأمانة والصدق والإحسان في التعامل، ساهم في تحسين سلوكيات كثير من الناس، وأدى إلى نجاح أنظمة مؤسسية كاملة تعتمد على هذه المبادئ؛ فالسُّنة في هذه المجالات ليست مجرد نصوص روحية، بل منهج عملي يعيد تشكيل الأخلاق والسلوك.
مكانة السنة في بناء الشخصية الإسلامية
ترتبط السُّنة بمنظومة الأخلاق الإسلامية ارتباطًا جوهريًا، فهي تقدم نماذج حية لسلوك النبي ﷺ في الشجاعة، والرحمة، والحكمة، والعدل، ولذلك اعتبرها علماء التربية الإسلامية المصدر الأساسي لتكوين الشخصية المؤمنة.
فالسنة تقدم للمسلم نموذجًا عمليًا يَقتدي به، وتضع بين يديه مواقفَ حياتية يمكن محاكاتها وتطبيقها في الواقع.
وتجد أثر ذلك واضحًا في حياة ملايين المسلمين الذين اتخذوا من هدي النبي ﷺ منهجًا في التعامل مع الأسرة، وفي إدارة الخلافات، وفي السلوك المجتمعي، إن هذه الجوانب التربوية لا يمكن أن تُستقى من القرآن وحده، إذ إن السُّنة تُقدم الجانب العملي الذي يُسهل تطبيق القيم القرآنية في الواقع.
منهج العلماء في فَهم السُّنة وضبط العمل بها:
لم يكن التعامل مع السُنة عشوائيًا؛ بل وضع العلماء ضوابط دقيقة لفهمها، فميزوا بين السُنة التشريعية والسُّنة الجِبلّية، وبين أفعال النبي الخاصة به وبين ما هو عام للأمة. كما درسوا سياقات الأحاديث وظروف ورودها، وربطوا المتون بأصول الشريعة ومقاصدها.
هذا المنهج العلمي الدقيق يمنع التسرع في استنباط الأحكام، ويحمي السُنة من سوء الفهم.
ولهذا السبب نجد أن الفقهاء اعتمدوا على قواعد أصول الفقه في التعامل مع السُنة، مثل قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وقاعدة الجمع بين الأدلة، وغيرها. هذه المنهجية مَنحت الشريعة قُدرة هائلة على المرونة والاستمرار عبر العصور.
السنة كمرجعية حضارية للأمة
لم تكن السُّنة مجرد تعاليم دينية، بل شكلت مرجعية حضارية للأمة الإسلامية؛ فقد نَظمت العَلاقات الاجتماعية، وساهمت في بناء أنظمة اقتصادية عادلة تقوم على مبدأ التكافل، وأسست لنظام سياسي قائم على الشورى والعدل.
ومن هنا تمكنت الأمة الإسلامية عبر التاريخ من إقامة حضارة واسعة تعتمد على المبادئ التي أرساها النبي ﷺ قولًا وفعلاً.
وقد مثلت هذه المرجعية إطارًا موحدًا لشعوب مختلفة الأعراق والثقافات، إذ وَجد الجميع في السُّنة نموذجًا جامعًا في الإدارة، والعدل، والرحمة؛ لذلك فإن فهم السُّنة اليوم يمثل ضرورة للحفاظ على الهُوية الحضارية للأمة في عالم تتسارع فيه التحولات الثقافية والفكرية.
خاتمة
يبقى أن نقول: إنَّ السُّنة ليست مجرد نصوص تراثية؛ بل هي جزء أصيل من الدين، وركن أساسي لفهم مقاصد القرآن، وهي التي تحفظ للأمة وحدتها، وتمنح المسلم تصورًا واضحًا عن كيفية تطبيق الشريعة في الواقع.
ولذا؛ فإن الاعتناء بالسُنة فَهمًا وتطبيقًا يُعد ضرورة دينية وفكرية وحضارية، تتجاوز حدود المعرفة إلى حدود بناء الإنسان والمجتمع.

من فضلك؛ اترك تعليقًا دعمًا للموقع.